الحكم الوطني حتى انقلاب 17 نوفمبر 1958م
عميد «م» محمد الفاتح عبدالملك
في 14 فبراير 1955م، ألقي السير روبرت هاو حاكم عام السودان خطاب الدورة أمام البرلمان وقد جاء فيه في شأن الإدارة والبوليس بعد اكتمال السودنة فيهما...
«لينهض السودانيون وحدهم اليوم بمسئولية الادارة والأمن في سائر انحاء البلاد وتعتزم حكومتي التوسع في قوات البوليس وإعادة تجهيزه بالمعدات الحديثة كما ستعيد النظر في تدريب تلك القوات لتطبيق أحدث النظم والأساليب لكفالة مستوى رفيع من الكفاءة للحفاظ على القانون والنظام».
* ظل العمل الأمني الاستخباري تحت ادارة القسم المخصوص وفقاً للأسس التي وضعها الانجليز ، وقد سار عليها من تولوا المسئولية من قادة العمل الأمني من السودانيين وعلى رأسهم السيد بابكر الديب والذي أصبح فيما بعد وكيلاً لحكومة السودان بمصر.. وقد تولى من بعده قيادة الأمن السيد أحمد عبدالله أبارو وعدد من أبرز ضباط البوليس في تلك الفترة.
من المعروف أن مبادئ الأمن الأساسية تظل كما هي وإن اختلفت العهود والموجهات ، فالهدف الأساسي للأمن هو توفير المعلومة الصحيحة الصادقة والتي تمكّن صانع القرار من اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب دفاعاً أو هجوماً deaensive -offensive ولعل المتتبع للتطور في أساليب عمل الأجهزة الأمنية يجد ان أساليب التدريب وأسسه في مختلف المدارس الغربية والشرقية مستمدة من نبع واحد وإن اختلفت الإمكانيات والأهداف.
ولعل فترة الحكم الوطني الأول وان اتسمت بغزارة النشاط وتعدده إلا أنها قد وفرت جواً معافاً وآمناً لأجهزة الأمن لممارسة نشاطها ، فقد كانت تمثل جزءاً حيوياً من المد الوطني وشاركت بفعالية في مسيرة استقلال البلاد وإرساء دعائمه وأيضا أتاحت للعددين من الضباط فرصة التدريب الميداني لتطبيق النظريات الأمنية في مختلف مجالات العمل الاستخباري.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العهد الوطني الأول قد منح أبناء الوطن من الاداريين والبوليس ثقته الكاملة ودفع بهم لتحمل المسئوليات في مختلف مواقع المسئولية وفق قدراتهم وامكاناتهم ولم يرتفع صوت نشاز ينادي بالاقصاء أو الإبعاد ولم يتعرض أحد للمساءلة أو التحقيق في إجراء اتخذ إبان عهد الاستعمار وتلك لعمري قمة التعامل الحضاري في ذلك الزمن وحق لنا ان نفخر بأولئك القادة من السياسيين الأفذاذ الذين رعوا مصالح البلاد وسموا بأنفسهم عن الحقد والحسد وتصفية الحسابات.
القسم المخصوص كان يتبع لوزارة الداخلية رئاسة البوليس وجميع اعضائه من ضباط ورجال البوليس ولم تكن القوة المخصصة له تتعدى الخمسين (ضباطا ورتبا أخرى) وقد شغل مكاتب بوزارة الداخلية الحالية بعد ان انتقل إليها من مبنى البوستة والتلغراف.
يقف على رأس القسم مساعد مدير البوليس للأمن والمباحث يساعده قومندان للأمن وآخر للمباحث «الجنايات» كما أوضحنا من قبل فإن السيد أحمد عبدالله أبارو قد كان على رأس القسم ، وأبرز من عمل معه كل من السيد القومندان عبدالقادر محمد الأمين أبوشامه والسيد زيادة ساتي..
الأقسام الرئيسية للقسم المخصوص كانت تتكون من
الميدان.. والمقصود به أمن المدن الثلاث.. أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري وقد كانت كل مدينة تحت مسئولية حكمدار أو مساعد حكمدار يساعده عدد من الضباط والرتب الأخرى ومن أبرز الذين عملوا في هذا الميدان.. حسن صديق عيسى، نصر بري، محجوب حسن درار، فيصل محمد خليل، محمد مساعد، علي عبدالرحمن، مصطفى الكتيابي.
السجلات.. قسم السجلات يعتبر من أهم أقسام الأمن.. ففيه تخزن التقارير والملفات المختلفة للأشخاص والمواضيع وقد كانت سجلات القسم المخصوص تمثل رصداً أميناً لنشاط الوطنيين من أبناء السودان ولعلها قد حفظت لهم حقهم فيما قاموا به من جهاد ونضال وأرى من حقهم علينا ونحن مقبلين على الاحتفال بأعياد الاستقلال بأن نخصص معرضاً لملفات القادة من السياسيين والنقابيين لتعرفهم أجيال اليوم ولتقف على ما كتبه الأمن عنهم من تقارير.
أبرز من تولوا مسئولية السجلات في ذلك الزمن السيد عبدالملك الطاش وعمر علي حسن ومن أبرز صف الضباط يوسف كرار عيد والموظفة حليمة عبدالله مبروك.
تسجيل ومراقبة الأجانب.. وهو قسم استحدث وتوسع فيه بعد الاستقلال وكانت الحاجة إليه ماسة ومن أبرز من عمل في هذا القسم المرحوم علي الطاهر مخير والسيد الخير يوسف والعم ميرغني عبدالماجد عليه الرحمة
* مسئوليات القسم
بصورة عامة كان القسم المخصوص مسئولاً عن توفير المعلومات عن مختلف الأنشطة السياسية والجنائية المؤثرة على الأمن ورفعها للمسئولين من خلال تقرير أمني يومي يرفع للسيد مدير عام البوليس بصورة للسيد الوكيل الدائم لوزارة الداخلية ولمحافظ الخرطوم وكان التقرير يشتمل على الأحداث المؤثرة في كل مديريات السودان والتي كان يبعث بها قومندانات البوليس في تقاريرهم للرئاسة.
ولابد من وقفة هنا فوجود القسم المخصوص مسئولاً عن الأمن في وزارة الداخلية تحت المسئولية المباشرة لمدير عام البوليس أتاح للقسم ان تصب فيه كل التقارير المتعلقة بالأمن والتي ترد إليه من قومندانات البوليس في كل مديريات السودان ولا يشمل ذلك تقارير عواصم المديريات فقط بل وكل التقارير التي ترد من أقسام البوليس المنتشرة في كل مديرية بل وفي كل نقطة بوليس حدودية أو خلافها وإذا عرفنا مدى انتشار الظل البوليسي في كافة أصقاع السودان لوقفنا على الكم الهائل من المعلومات التي تتوفر للقسم المخصوص.. وقد ساعد على ذلك وجود شبكة اتصالات فعّالة خاصة بالبوليس وتلك التي تتبع لمكاتب البوستة والتلغراف والتي كانت دوماً في خدمة الأمن.
أيضا كان يتم إعداد تقرير أمني شهري وآخر سنوي ملخصاً لأهم الأحداث والمعلومات التي توفرت.
* قانون البوليس كان منظماً لحقوق وواجبات أعضاء القسم المخصوص.. لم تكن لهم مخصصات أو حوافز ولم يتم تمييزهم عن بقية منسوبي القوة وكانوا جزءاً من الكشف العام يتم نقلهم لمختلف وحدات البوليس بما تمليه مصلحة العمل.. كما لم يكن للقسم ميزانية منفصلة أو حتى ميزانية ونثريات العمل الأمني كان يصدقّها المدير العام ويحفظ لها سجل يحدد بنود الصرف ويسجله.
انحصرت مهمة القسم المخصوص في توفير المعلوم واذا ترتب عليها أي إجراء من اعتقال أو تفتيش يتم ذلك عن طريق قسم المباحث الجنائية ووفقاً لقانون الإجراءات الجنائية.. كما لم تعرف تلك الفترة عملية الاعتقال التحفظي وأي اعتقال يجب ان يتم بموجب بلاغ مفتوح أو بأمر قضائي ولايتم التجديد لأي معتقل إلا بواسطة القضاء.
ظل قسم الأمن بوزارة الداخلية ينفذ كل قوانين السودان السارية المفعول وذلك بموجب السلطات الممنوحة له في قانون البوليس إلا أنه وبحكم التخصص فقد كان مناطاً على وجه الخصوص
1ـ بالجرائم تحت قانون العقوبات السودانية لسنة 1925م، خاصة تلك المحددة في الباب العاشر من القانون وهو الباب الخاص بجرائم الإثارة من المادة 105 وحتى المادة 108 وهي تتحدث عن اثارة المعارضة غير القانونية والكراهية ضد الحكومة واثارة الكراهية بين الفئات، اذاعة الشائعات بغرض التحريض ضد الدولة والطمأنينة العامة
2ـ الجرائم تحت الباب الثاني عشر من قانون عقوبات السودان المادتين 127 و127أ والخاصة بازعاج السلام العام والشغب.
3ـ قانون النشاط الهدام والذي كان موجهاً بصفة خاصة ضد الحزب الشيوعي السوداني ونشاطاته وقد الغي بواسطة أول برلمان حينما تقدم السيد مبارك زروق زعيم المجلس باقتراح لإسقاط القانون وأيده السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة وسقط القانون في عام 1954م.
مما لاشك فيه ان تلك الفترة قد حفلت بنشاط حزبي محموم كما سادتها أحداث مأساوية مؤسفة في العاصمة الخرطوم وفي انزار بمنطقة الزاندي وتوريت بشرق الاستوائية وجودة بالنيل الأبيض لعل نتائجها وأثارها ظلت حتى يومنا هذا تفت في عضد هذا الوطن الحبيب .. سنتحدث عن تلك الأحداث وأثرها على أمننا القومي بما أفرزته من نتائج سالبة على مسيرة البلاد.
كيف الرجوع بلا شراع ** يا من قرعتي طبول الوداع
ebnalsudan