كما تجيش الاحلام في خاطر كل شاب سوداني يحلم بغدٍ واعد وبيت سعيد وذدرية صالحة كانت احلام (محمد احمد الفضل ) الشاب السوداني ذو الخمسة وعشرين عاماً والذي يسكن باحدى قرى الجزيرة في اواخر التسعينات ، اكمل (محمد احمد ) المرحلة الثانوية ولم تسمح له ظروف اسرته المكونة من الاب والام وشقيقتين ( الرضية ) تصغره بسنتين و( ام الحسن ) تصغره باربعة سنوات من تكملة مشوار الدراسة الى الجامعة حيث كانت الاسرة تعاني من الفقر كسائر الاسر في القرية فالوالد يمتلك ( حواشة ) اربعة افدنة وبقرة وعشرة نعجات هي ذاده في تربية ابناءه ، والحال يغني عن السؤال ، فقد كان الوالد ( الفضل ود الامين ) والملقب بالتلب يحفر باظافره على التراب من اجل تعليم ابناءه وتوفير عيشة كريمة لهم وكان يجمع ما يحصده من ارضه في كل عام ويصرفه كله عليهم محاولاً توفير سبل العيش الكريم لهم ليغنيهم عن السؤال اذا ضاقت بهم الارض بما رحبت، الوالدة ( ست الجيل ) امراءة سودانية الطباع تعلم جيداً معاناة الوالد في توفير سبل العيش الكريم لها ولاولادها ومن اجل ذلك كانت تشجعه وتشد من ازره بل كانت تعاونه بكل قواها في زراعة الارض وجني المحصول وتوفر عليه عناء البحث عن معاون او شريك يقاسمهم الارض ، كانت صابرة لا تشكو ظلم الزمن ولا يهد كاهلها التعب من اجل ابناها ومن اجل رسالتها الساميةالتي آمنت بها ، جاهدت وكافحت حتى رات ابنها يكمل الثانويةالعليا بنجاح وبناتها على اعتاب الزواج ...
ولما كان هذا هو حال هذه الاسرة الصغيرة ، ولما كان الشباب في القرية والقرى المجاورة يلجأون الى الاغتراب عن الوطن للبحث عن الرزق في ارضٍ اخري او النزوح الى العاصمة للبحث عن مصدر رزق يعين الاسرة علي نفقات المعيشة ، كبرت هذه الفكرة وتسللت الى عقل ( محمد احمد ) بعد ان جلس مع ( النور ود صافي الدين ) صديقه وجاره العائد من السعودية بعد رحلة ( عمرة وزوقة ) عمل هناك لمدة اربعة سنوات وكون مبلغاً محترماً وحينما امسكت به السلطات السعودية تم ترحيله الي السودان لمخالفته قانون الاقامة ، وعاد ومعه مبلغأ من المال ويفكر في شراْ ( تراكتور ) يعمل به في حراثة الارض ويتزوج من بنت خاله ( نعيمة ) التي كان يحبها منذ الصغر ، وبداءت الفكرة تتسلل الى عقل محمداحمد حتى انه ما عاد يحتمل الانتظار وفي ظهر يوم من الايام والوالد والوالدة يجلسان تحت ظل شجرة النيم الكبيرة في وسط الحوش يشربان قهوة الضحوية ، جاء محمد احمد وقلبه يخفق خوفاً من ان يرفض ابوه الفكرة ، وفي لهجة متلعثمة قال
محمد احمد : ابوي انا والله فكرتا في السفر للسعودية .
ارتجف فنجان القهوة في يد ( الوالد ) وكاد يسقط وشهقت الام في هلع ورد الوالد
تسافر وين يا محمد احمد ؟
الوالدة : سجمي يا ولدي بتدور تفوتنا لي منو ؟
محمد احمد: يا امي انا بمشي سنة سنتين اعمل لي قروش واجي اشتري لي بابور ولا عربية نترزق بيها .
الوالد : والدموع تصطف خلف محاجره وهو يكبتها خوفاً من ان تفضح حزنه
يا ولدي سفر شنو وغربة شنو ؟ما هدي وطاتك كبيرةواااااسعة وخيرا كتير ازرعا وسوي الدايرو لكن السفر لا يا محمد احمد !!!
الوالدة : والله كلام ابوك دا سمح يا ولدي الحواشة محتاجة ليك والخير فيها كتير ازرع ليك بصل وازرع القمح بيجيبن ليك قروش نعرس ليك بيها ونفرح بيك وانت معانا وسطنا
محمد احمد : يا اخوانا واطة شنو البزرعا ؟ ما هدا ابوي بيزرع ليه اربعين سنة الحواشة سوت لينا شنو بلا شالت عمرنا ساي ، عاينو لي ( النور ودالصافي ) اربعة سنين سوا فيها ملايين وربنا فتحا عليهو ولا عندوحواشةولا حاجة
الوالد : يا ولادي الناس ما عارفا قيمة الارض دي ، الصبايين جنو بي السفر للسعودية سااااي والله وطاتنا دي كان عارفين الفيها ولا السعودية ولا مية سعودية
محمد احمد : يابا انتي ما تكسر مجاديفي وخليني انجرب زي الناس ما بتجرب
سمعت الشقيقات ( ام الحسن ) و ( الرضية ) الحوار واقبلن الى الشجرة ودخلن في الموضوع
الرضية : انت يا ابوي ما هديل كلو اولاد الحلة مرقوا وجابو السمح لي اهلم ما تخلي محمد احمد يسافر ويجرب حظو
ام الحسن : آآآآآآآي يا ابوي الناس كلهم العندهم اولاد مشو السعودية جابو ليهم التلفزيونات والهدوم السمحة ليه نحنا ما نعمل زيهم خلوهو يسافر ويجرب
احس الوالد بقُصة تسد حلقه وهو يسمع هذه الكلمات من بناته وكانهن يلمنه لانه السبب في فقرهن وهو لا حول له ولاقوة ، والام لم تستطع مسك دموعها لانها احست بدنو فراق ابنها الوحيد....
وتحت الحاح الابناء وافق الوالد على سفر ابنه الوحيد الى غياهب المجهول في رحلة غير مضمونة العواقب ولكنها في الآخر ستعود عليه بالفائدة سواء كانت ناجحة او فاشلة لانه سيتعلم من اخطاءها الكثير ..
لم تمضي سواء ايام معدودات سافر فيها محمد احمد الى الخرطوم ونزل في بيت العزابة ابناء القرية حاملاً معه مبلغاً من المال جمعه والده من بيع كل المخزون من محاصيل العام واربعة نعجات من نعاجه العشرة ، ومعهن دعوات الوالدين والاهل بان يتحقق حلمه الذي ارتضى من اجله هجر ارضه والبحث عنه في بلاد بعيدة
وبعد شهر كان محمد احمد يودع والده ووالدته واخواته والدموع تبلل جلبابه ، وصل الى سواكن وفي المساء دخل الى الباخرة وتحركت به نحو المملكة وفي عرض البحر في ليلة باردة جلس محمد احمد على سطح الباخرة مع مجموعة كبيرة من رفقاء الدرب وكل واحد منهم تملاءه هموم واحلام جلس محمد احمد في ركن وقد تلفح بشال اصفر كبير اهداه له والده ليقيه من برد الغربة احس بدفء وحنان والده واخذ يغوص في حلم جميل وفي وسط الاحلام تداخلت عليه اسئلة حائرة تبحث عن اجابات
الى اين انا ذاهب ؟
ما هي طبيعة هذه البلادوطبايعها ؟
كيف ساستقر واين سابقي ؟
من سيساعدني في البحث عن عمل ؟
ماذا ساعمل ؟
هل عندهم حواشات زينا ؟
لماذا لم اسمع كلام والدي وارعى ارضي ؟
هل هذا هو قدري ؟ ام ان قدري سيعيدني حيث ابتديت ؟
هل وهل وهل ؟؟؟؟؟؟
كل هذه الاسئلة لم تجد اجابة شافية في محمد احمد
وصل صديقنا الى المملكة وحل في جدة واخذ يبحث عن عنوان احدابناء قريته كان قد اخذه من صديقه النور ود الصافي ، وفعلاً وجده ورحب به وبحث معه عن عمل ولكن كان العمل الذي وجده له عاملاً في مزرعة ، ذهب محمد احمد الى المزرعة في الصباح ليباشر عمله وصاحب المزرعة يرشده الى العمل
يا محمد احمد اريدك تحرث لي الارض هي وتزرع لي برسيم هنا.
امسك محمد احمد بالطورية بين يديه بعد ان خلع جلبابه ومع اول ضربة على الارض مرّ شريط ذكريات في خياله فيه صورة والده يمسك بالطورية ويحرث ارضه والعرق يتصبب من جبينه وشمس الظهيرة تكاد تحرق بشرته وهو ينادي على ابنه ( يا محمد احمد يا ولدي خليت واطاتك بلا حرات ومشيت تحرت في واطات الناس ، يا ولدي الما خدر ارضو ارض الناس بيسويها بور ) دحين يا ولدي ارجع وارض لي ارض وزراعة لزراعة ارضك اولى يامحمد احمد )
هنا رمي محمد احمد الطورية بقوةوغضب وهو يردد ارضك اولى ارضك اولى والرجل صاحب المزرعة ينظر اليه في دهشة واستغراب اسرع محمد احمد الى منزل صديقه واخبره بنيته في العودة ولم يستطع الرجل اثناه عن رغبته وبعد اسبوع فقط كان محمد احمد في القرية
اسعد الناس كان والده لانه كان يعلم ان ابنه لن يترك ارضه وانه لامحالة عائد
اسرع محمد احمد بعد ان سلم على اهله ورمى حقيبته اسرع الى الحواشة وارتمي يقبل ترابها وهو يبكي والماء يتسرب الى تحت قدميه يروي الارض العطشى وتفوح رائحةُ حبيبة الى النفس يستنشقها محمد احمد بعمق وتسري في دواخله زكية إنها ( رائحة الأرض )